
د. محمد الأمين السملالي
خبير لغويّ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كُتب الكثير عن "إمام العلم بالحرمين، وخادمه بالمشرقين والمغربين"، العلامة محمد محمود بن التلاميد (1245-1322ه)، الشنقيطيّ داراً، التركزيّ نِجاراً، الحرميّ مُهاجَراً ومَزاراً، المصريّ الأزهريّ موئلاً وقراراً. ولكن أظن أن في شخصية هذا العلَم الفريد جانباً عظيماً ما زال يستحق المزيد من الأضواء، أعني بذلك إنجازات الرجل في إخراج أمهات التراث العربي، التي قامت عليها أسس النهضة الأدبية الحديثة في مصر والمشرق العربي، والتي خلّدها الشيخ في حماسته السائرة حيث يقول:
تَذَكَّرتُ مَن يَبكي علَيَّ فلم أَجِدْ ** سوى كُتُبٍ تُخْتانُ بَعدِيَ أو عِلْمي
تمهيد
لقد استقر الشيخ الشنقيطي بالقاهرة ابتداء من سنة (1307هـ)، وهي إذ ذاك تتلمس طريق النهضة، من خلال تحديث المناهج الأزهرية، ونشر أمهات الكتب اللغوية والأدبية. وإذا كانت نشرة لسان العرب وتاج العروس قد سبقت هذا التاريخ بقليل، فإن الشنقيطي كان على موعد مع معجم آخر لا يقل أهمية عن السابقين، ألا وهو معجم (المخصّص) لابن سيدة، فعندما تأسست (جمعية إحياء الكتب العربية) برئاسة الشيخ محمد عبده، كان أول مشروع بين يديها هو نشر كتاب المخصص، حيث لم تتردد في إسناد تصحيحه إلى الشيخ الشنقيطي (أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث: 334). كما سنكتشف لاحقا أن طبعة القاموس المحيط (دار المأمون، سنة 1357هـ)، بعناية الشيخ نصر الهوريني، إنما اعتمدت على نسخة الشنقيطي التي ضبطها بقلمه بكل اهتمام، ولو امتدّ به الأجل لما كان غيره ليتولى تصحيح المطبوعة؛ فقد جاء على الصفحة الأولى منها: "قوبلت هذه النسخة على نسخة إمام أهل اللغة الخطير، وأستاذها الكبير، المرحوم الشنقيطي".
نبذة عن المُخَصَّص
يعرف الناس غالباً (معاجم الألفاظ)، التي ينطلق ترتيب موادِّها من الجذور والألفاظ، مثل العين والتهذيب واللسان والقاموس المحيط، ولكن قليلٌ من الناس من يعرف النوعَ الآخر وهو (معاجم المعاني) التي ينبني ترتيبها على جمع الألفاظ المتعلقة بموضوع واحد على حِدَةٍ، وإلى هذا الصنف ينتمي كتاب (المخصَّص)، وهو موسوعة ضخمة في (17) سِفراً، في ستة مجلدات، حسب الطبعة الأميرية ببولاق. وهذا مثال من ترتيب موضوعاته: كتاب خلق الإنسان - كتاب اللباس - كتاب الطعام.. إلخ، وتحت كتاب خلق الإنسان يذكر: باب الحمل والولادة - أسماء ما يخرج مع الولد - الرضاع والفطام والغذاء وسائر ضروب التربية.. إلخ.
أما مؤلِّفُه فهو إمام اللغة أبو الحسن علي بن إسماعيل الضَّرير (398 - 458هـ=1007 - 1066م)، "ولد بمرسية (في شرق الأندلس) وانتقل إلى دانية فتوفي بها. كان ضريرا (وكذلك أبوه) واشتغل بنظم الشعر مدة، وانقطع للأمير أبي الجيش مجاهد العامري، ونبغ في آداب اللغة ومفرداتها"(الأعلام: 4/ 263). وقال عنه ابن خلكان: "كان إماماً في اللغة والعربية حافظاً لهما وقد جمع في ذلك جموعاً، من ذلك كتاب (المحكم) في اللغة، وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة، وله كتاب (المخصص) في اللغة أيضاً وهو كبير، وكتاب (الأنيق) في شرح الحماسة في ست مجلدات، وغير ذلك من المصنفات النافعة"(وفيات الأعيان: 3/ 330).
تصحيحٌ أم تحقيق؟
استغرق مشروع طباعة المخصص ست سنوات، بدءاً من 1316هـ إلى رجب سنة 1321هـ، وبالرجوع إلى تقرير النشر الملحق بالمجلد الأخير، نجده يشير إلى دور الشيخ الشنقيطي، حيث يذكر اهتمام الشيخ محمد عبده بالمشروع، وأنه أمر بكتابة نسخة مخطوطة استعداداً للطباعة.. ثم يضيف: "وبعد كتابة نسخة منها وَكَلَ تصحيحَها ومقابلتها على أصلها إلى حضرة الأستاذ العلامة مرجع طلاب اللغة والأدب الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، وكان معه في المقابلة حضرة صديقنا الفاضل الشيخ عبد الغني محمود أحد علماء الأزهر الشريف، فبذل في تصحيحها على الأصل ما استوجب به وافر الجزاء، ومزيد الثناء"(المخصص، تقرير الطباعة: 17/ 168). لقد كانت مهمة الشيخ الشنقيطي على مرحلتين: أولاهما بمقابلة النسخة المنتقاة التي كُتبت لتدفع إلى المطبعة، والمرحلة الثانية هي مراجعة المَلازم القادمة من المطبعة، لتصحيح أخطاء التنضيد.
وإذا كانت مناهج البحث الحديث تفرّق بين التحقيق والتصحيح، فإن الأمر لم يكن كذلك في بواكير النهضة الحديثة، حيث كان العلماء يقومون بتصحيح الكتب بكل دقة علمية، مع التعليق والتصويب في المواضع التي تحتاج إلى ذلك، يفعلون كل ذلك في سبيل الله وخدمةً للعلم، من غير أن يهتموا بوضع أسمائهم على المطبوعات، وهذا في حقيقة الأمر هو التحقيق المطلوب، أما ما صار بعد ذلك من إثقال الهوامش والمبالغة في التراجم والتعليقات، فليس من التحقيق في شيء.. بل هو مبالغاتٌ تشوّش على القارئ وتصرفه عن الكتاب الذي بين يديه، هذا إذا خلت من استعراض العضلات أو تضخيم الكتاب لأغراض التسويق.
وعليه فإن الناظر في تعليقات الشنقيطي على الكتاب، والعارف بما قاساه في تصحيحه، يدرك أن ما قام به ليس مجرد تصحيح أو مقابلة، بل إنه حمل على عاتقه عبء المشروع في جانبه العلمي كاملاً، وبذل في ذلك مهجة روحه ونور عينيه بكل إخلاص ومحبة، وغالب الظن أن تداعيات ذلك الإجهاد كانت السبب المباشر في وفاته، كما عبر هو عن ذلك، حيث يقول تلميذه البَرّ أحمد تيمور باشا: "وكان لا يملُّ المطالعة ليلاً ونهاراً حتى أضنته كثرةُ الجلوس وسبَّبت له أمراضاً وآلاماً، ولاسِيّما لما اشتغل بتصحيح المخصَّص وأنه كان يُقابله مع شخص آخرَ بمكان رطبٍ في الطبقة السُّفْلى من داره، فاشتدَّ به مرضُ الصدر وألمُ الرثية في أطرافه [الرثية: مرض المفاصل]، وكثيراً ما كان يقول: أنا قتيل المخصص، أنا قتيل الكتب". (أعلام الفكر الإسلامي: 371).
ولقد نتج عن هذا التحقيق مشروع علمي، وهو كتاب بعنوان: (بنيان العلم المُرصَّص، لبيان وهم صاحب المخصص)، والذي كان الشيخ ينوي إصداره من واقِعِ تعليقاته وتصويباته على (المخصص)، لولا أن اخترمته المنية من دونه.
ونرى من الضروري أن نسوق هنا كلاماً للشيخ رشيد رضا يعطينا صورة عن عمل الشيخ الشنقيطي في هذا المشروع، والذي تجاوز (المخصص) إلى غيره من المعاجم والكتب الأدبية، حيث يقول في سياق حديثه عن طبعة (لسان العرب) التي سبقت الإشارة إليها: "وأذكر أنه لما سافر الأستاذ الإمام سفره الأخير إلى تونس والجزائر وصقلية وأوربة، أنابَني عنه بتصحيح كتاب (المخصَّص) مع الشيخ محمد محمود الشنقيطي (رحمهما الله تعالى)، فكان هذا (أي الشنقيطي) يذكر لي في أثناء التصحيح كثيراً من أغلاط (لسان العرب) التي اعتمد عليها مصحِّحو المطبعة الأميرية في تصحيح (المخصَّص) فأخطأوا، وقليلاً من الأغلاط التي أخطأ فيها ابن منظور نفسه في النقل أو الاعتماد على بعض الروايات المرجوحة في اللغة. وقد انتدب صديقنا أحمد بك تيمور الباحث اللغوي الشهير بتدقيقه وسعة اطِّلاعه لجمع ما تيسر له من تلك الأغلاط وتصحيحها"(مجلة المنار: ربيع أول، 1335هـ).
ونورد شهادة أخرى للشنقيطي الآخر صاحب (الوسيط)، تؤكد إشرافَ ابن التّلاميد الكاملَ على المشروع، حيث يقول في معرض انتقاده لمذهب ابن التلاميد في (مسألة عمَرَ): "ولمّا طبع المخصص في مصر، وكان محمد محمود مشرفاً على طبعه، حرَّف هذا البيت فيه، وقال: إنه "عمر" بالجر. وإن النساخ حرفوه، كما هو مبسوط على هامشه". (الوسيط: 384-385).
نعم، لقد كان ابن التلاميد على مذهب المتقدمين في الزّهد واطّراح الشهرة، ولكنه أيضاً لم يكن يرضى أن يُهتضَم حقه، بعدما شاهد من جرأة أدعياء العلوم، فقد عبر عن ما قاساه من جهد في تحقيق هذا الكتاب الفريد، فقال -ولم ينس مساعِدَه الشيخ عبد الغنيّ- (الحماسة السنية: 17):
سيبكي عليّ العلمُ والكُتْبُ بعدَما ** صدَعْن بأمري غيرَ صُمٍّ ولا بُكْمِ
مخَصَّصُها المطبوعُ يَشهَد مُفْصِحاً ** بما حاز من ضَبطي الصّحيحِ ومِن رَمِّي
فعبدُ الغَنِيّ القارئ الفرعِ شاهِدٌ ** بِحِفظيَ عند الحذفِ والبَترِ والخَرْمِ
بذا يشهد المفتي وأصحابُ طَبعِه ** ولا يَكتُمون الحَقَّ كِتْمانَ مَن يَكْمي
وقاموسُها المَشهورُ يشهَدُ في الضُّحى ** بِذاك وفي بِيضِ اللّيالي وفي الدُّهْمِ
وكأني بالشنقيطي رحمه الله في أبياته هذه يقدم درساً للباحثين، عن أصول التحقيق العلمي الصحيح، التي تركز على: (الضبط الصحيح - الرّمّ: أي إصلاح التحريف والتصحيح - تكميل المحذوف - معالجة المبتور والمخروم).
على أنه لا يغيب عن بالنا أن الشيخ إنما اعتمد على نسخة واحدة من المخصص، لم يوجد غيرها في ذلك الحين، محفوظة بالكتبخانة الأميرية المصرية (المخصص: 17/168).
ولا ندري هل كان الشنقيطي بفراسة المؤمن التقيّ، قد توقّع أيضاً أن تُنكَر جهوده، فكان كثيراً ما يوقع على الهوامش والتعليقات بقوله: "وكتبه مصححه"، وأحياناً: "وكتبه محقِّقُه محمد محمود، لطف الله به تعالى. آمين".
جُحود مُبَكِّر
يبدو أن المجتمع العلميّ قد أدرك مبكّراً قيمة هذا الكتاب وقيمة التحقيق، وشهد له بما يستحق، كما نجد مثلا في «مجلة المقتبس» لصاحبها العلامة محمد كرد علي في العدد (42) بتاريخ: (رجب/ 1327هـ)، حيث يقول: "ولم نرَ في المطبوعات التي انتشرت في العهد الحديث أتقَنَ وأجملَ وأصحَّ من كتاب (المخصّص) لابن سيده، تعاوَرَتْه بالتّصحيح أيدي بعض العلماء الأخصّائيين المحقّقين فجاء مزيداً في بابه لانخجل منه إذا نظر فيه عالم أوروبي كسائر مطبوعاتنا الأخيرة"، ولكن من الواضح أن اسم الشيخ قد غطاه النسيان بعد خمس سنوات فقط من صدور الكتاب.
أما "أصحاب الطّبع" الذين أشار إليهم الشيخ في أبياته، فقد شهدوا له أيضاً بما بذلَ من جهدٍ ما كان لغيره أن يبذله، لكنهم -في نظري- لم يعبّروا عن ذلك كما ينبغي، فقد كانت الأمانة العلمية تقتضي أن يتولى الشيخ نفسه كتابة التقرير العلمي، وإن لم يكن ذلك فكان عليهم أن يوضحوا دوره الكامل ويصدّروا الغلاف باسمه، لا أن يحصروا دوره في مجرد تصحيحٍ أو حواشٍ وتعليقات على الكتاب. ولو طلبوا منه قصيدة تخلّد هذه المناسبة العظيمة لما تقاعس أو تلجلج.
وسيراً على منهج "أصحاب الطبع"، قامت دار الكتب العلمية لاحقاً، بتصوير طبعة بولاق بعدما نفدت من الأسواق، ووضعت عليها عنوانها، ولكنها أغفلت اسم الشيخ المحقق، رغم أنه صار من المتعارف في عالم النشر أن توضع أسماء المحققين على أغلفة الكتب.
ولعل ما أشرنا إليه من التقصير والإغفال هو ما جعل أغلب الباحثين في نشرهم العلمي إنما يعرّفون هذه الطبعة بأنها (ط. بولاق)، دون أن يعرفوا اسم المحقق، بل إنهم في الغالب لا يظنونها محقَّقة؛ بل بلغ النُّكران أو القصور ببعض المعاصرين أن يطعن في هذه النشرة الرائدة من دون سبب وجيه، وهو د. عبد اللطيف غزواني في دراسته (التلازم اللفظي في معجم المخصص.. مقاربة معرفية: ص: 46)، حيث يقول عن المخصص: "نشر لأول مرة سنة 1904م، في طبعة رديئة وغير محققة"!! وهكذا يصف الباحث الطبعة بالرداءة من دون أن يبين ما يقصد، كما ينفي عنها التحقيق، بينما في الوقت نفسه يذكر أنه اعتمد في دراسته على "طبعة دار إحياء التراث العربي ببيروت سنة 1996م، التي تولى تحقيقها: خليل إبراهيم جفال"!! وسوف يرى القارئ حقيقة هذه الطبعة المحققة(!!) بعد قليل.
استنساخٌ غير موفَّق
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، انتشرت ظاهرة الطبعات التجارية، التي تلجأ إليها بعض دور النشر، في سبيل التربح والكسب، حيث تتجرأ على نشر الكتب الضخمة من دون قدرة على الوفاء بما تحتاجه من التحقيق العلمي، ويبدو أن كتابنا (المخصص) قد نال نصيبه من ذلك التلاعب، فقد أصدرت دار إحياء التراث العربي طبعة من الكتاب سنة 1996، في خمسة مجلدات، وتوجد نسخة من هذه الطبعة على مكتبة الشاملة، مما سهّل تداولها وانتشارها بين الباحثين.
وسوف نقف بعض الوقفات المقارنة مع هذه الطبعة، لنرى أي الطبعتين أولى بالصواب، على أن نشير لطبعة الشنقيطي بـ (ش)، وطبعة التراث العربي بـ (ت):
1. بين تحقيقين:
لقد أوضحنا آنفاً طبيعة التحقيق الذي حظيت به النشرة (ش)، أما الطبعة (ت) فقد جاء على غلافها: (قدم له: الدكتور خليل إبراهيم جفال (...) اعتنى بتصحيحه: مكتب التحقيق بدار إحياء التراث العربي)، وهكذا يتضح أن النشرة غير محققة، ولم يدّع أصحابها ذلك، بيد أن ذلك لم يمنع مِن انقلاب الحقائق لدى جمهرة الباحثين، الذين صار أكثرهم يشيرون إلى الطبعة (ت) بأنها بتحقيق: خليل جفال، كما ذكرنا عن أحدهم آنفا، وكما هو الحال في (المكتبة الشاملة)، التي يعتمد عليها أغلب الباحثين الكسالى، بينما لا يكاد أحد يدرك أن طبعة (ش) هي المحقّقة فعلاً، وإن خَلَتْ من الإشارة لذلك.
2. ما الجديد:
إذا كانت النشرة الجديدة غير محققة، فلم لَمْ يعتمد أصحابها نسخةَ الشنقيطي المحققة؟ الواقع أنهم فعلاً قد اعتمدوها ولكن من دون أن يعلنوا ذلك، وفي ذلك ما فيه من الغمط والتدليس، رغم أنهم احتفظوا بتعليقات الشيخ وهوامشه في مواضعها، ولم يذكروا اسم الشيخ إلا ذكراً خاطئاً في غير محله، حيث أسندوا إليه كلاماً في الإشادة بكتاب المخصّص، اقتبسوه من تقرير الطبعة الأميرية، وظنوه للشيخ وهماً منهم، وقد سرى هذا الوهم وانتشر في الآفاق، فاستقرّ في ويكيبيديا وغيرها، ليعتمده الكسالى من الباحثين.
في المقدمة تحدثت اللجنة عن دواعي إعادة نشر الكتاب، فقالت إنها قامت "بتصحيح ألفاظه، وتخريج آياته القرآنية، وفهرسته بما يسر الله به وأعان، وذلك بعد أن رأت تآكُل الحَرف الحَجريّ في طبعاته القديمة (...) فعهِدَت إلى سعادة الدكتور خليل إبراهيم جفال أستاذ الأدب واللغات السامية في الجامعة اللبنانية، القيامَ بتقديم الكتاب، ووضع ترجمة لمؤلفه، وفهرسته على الترتيب الألفبائي للمواد حتى يتم النفع به، على طريقة (مختار الصحاح) للرازي".
وإذا كان الأمر كما قالوا، فهذه دواعٍ منطقيّةٌ لإعادة النشر، وخصوصاً منها السبب الأخير، ولكنك تُفاجأ بأن كل ذلك خلاف الواقع؛ فالفهرست التي أشاروا إليها لم تحصل، وإنما أعادوا نشر الكتاب بترتيبه الأصلي، بل وبفهارسه الأصلية في نهاية كل مجلد!!
3. الحروف والإخراج: نعم، لا شك أن الحرف الحجري القديم صار صعباً على غير المختصين، فماذا أضافت الطبعة الجديدة؟ من الناحية الشكلية والإخراجيّة جاء الحرف الجديد أوضح من سابقه، ولكن إخراج النص جاء رديئاً وغير مريح للقراءة، حيث تحتوي الصفحة الواحدة على (34) سطراً، ويحتوي السطر الواحد على (18) كلمة، بينما تحتوي النشرة (ش) على (25×16). أما علامات الترقيم -التي صارت مساعِدةً في توضيح النصوص- فلم تستخدم في (ت) إلا نادراً وبشكل عشوائي، حيث تجد فقرة من عشرة أسطر أو أكثر لا تحتوي على فاصلة أو نقطة! في حين أن النشرة (ش) التي رأت النور قبل استخدام علامات الترقيم، كانت أحسن في هذا الجانب، فقد فصلت بين الفقرات بفراغات صغيرة، تقوم مقام الفواصل.
4. تخريج النصوص: الشيء الوحيد الذي وفى به أصحاب النشرة (ت) هو تخريج الآيات الكريمة، ولكن المعروف أن الباحثين والقرّاءُ أحوج من ذلك إلى تخريج النصوص الأخرى، من الشواهد الشعرية ونحوها، مما لم يتطرق إليه أصحاب النشرة أبداً.
5. التصحيح: بخصوص إشارة النشرة (ت) إلى تصحيح الألفاظ، ومع يقيننا بأن أي نشرة لن تخلو من أخطاء وأوهام، فقد رأينا أن نتخذ نماذج عشوائية للمقارنة، لنكتشف أن النتيجة كانت عكسية في غالب الأحيان:
● في ص (1/38/ ت) نجد البيت التالي:
من الْوَاو إِلَّا على المعا ** لَا لعِلَّة غَيرهَا
ونقع في حيرة من تَطْلاب معنى هذا الشاهد، فلا ينجينا إلا العودة للنشرة القديمة (ش)، لنجد أن الفقرة ليست شعراً، وإنما هي من كلام المؤلف، ضمن فقرة كان فيها نقص وبياض بالأصل، فوضع مخرج النشرة (ش) فراغاتٍ في مواضع البياض، فظنها أصحاب النشرة (ت) فراغات بين أشطار البيت، بينما كان أصل الفقرة على النحو التالي (11 / 1/ ش): "فارتفعت الظنون، وَقتل الشَّكَّ الْيَقِين (...) من الواو إِلَّا على المعا (...) لا لعِلَّة غيرها…)".
● في ص (1/43/ت) نجد البيتين التاليين:
أَلا أَيّها البيتان بالأجرَعِ الَّذِي ** بِأَسْفَلِ غَضىً [...] وكثيبُ
[........................] ** من النَّاس إِنْسانٌ لدَيَّ حبيبُ
ولا غضاضة في ضياع موضعين من النص، ولكن الشطر الثاني من البيت الأول لا يمكن بهذا الشكل أن يكون من الطويل، ولا يمكن أن يضبطه الشنقيطي هكذا، فإذا عدنا إلى ص (1/16/ش) نجد البيت على النحو التالي:
أَلا أَيهَا البيتان بالأجرع الَّذِي ** بِأَسْفَلِ [...] غَضىً وكثيبُ
نعم، إنه مجرد فراغ صغير تغيّر موضعُه بين النّشرتين، ولكنه يدل على فراغ هائل بين من يعلم وبين من لا يعلم ولا يحترم من يعلم.
وكما أشرنا آنفاً، فلو أن أصحاب النشرة (ت) تحملوا عبء تخريج النصوص، لكان لعملهم قيمةٌ، ولكانوا خرّجوا لنا هذين البيتين وأكملوا نقصهما من المصادر الأدبية التي توافرت قبل هذه النشرة، مثل (أمالي القالي)، الذي أوردهما كما يلي (1/191):
أَلا أَيهَا البيتان بالأجرع الَّذِي ** بِأَسْفَلِ مفضاهُ غَضىً وكثيبُ
هجَرْتُكما هَجْرَ البَغيضِ، وفيكُما ** مِنَ النَّاس إِنْسانٌ لدَيَّ حبيبُ
● في ص (1/54/ت) نجد البيت التالي منسوبا لأوس بن حجر:
تُسْكِتُ بِالماءِ تَوْلَباً جَذَعا ** فَقلت لَهُ جَدِعاً فأَنِفَ وصاح
ولا شك أن من يفهم الشعر سوف يصيح منكراً لهذا البيت! ولن يجد الفرج إلا بالرجوع للأصل الأصيل، ص (1/29/ش)، ليجد النص على وجهه: "والجَدِعُ: السيِّئُ الغذاء، وقد جَدِع جَدَعاً، وأَجْدَعْتُه غَيْرَهُ، وجَدَعْتُهُ، قال أبو عَليّ: أَخْبَرني أَبو بكر بن دُرَيْدٍ عَن عبد الرَّحْمَن، عَن عَمّهِ، قالَ: سَمِعتُ المُفَضَّل يَوْماً يُنشدُ بَيتَ أَوْس بنِ حَجَرٍ: * تُسْكِتُ بِالماءِ تَوْلَباً جَذَعا * فَقلت لَهُ: جَدِعاً. فأَنِفَ وصاحَ، فَقلتُ: واللهِ لَو نَفَخْتَ فِي شَبُّورِ يَهُودِيٍّ، لا رَوَيْتُه بعدَ اليَوْم إِلَّا جَدِعاً".
فابن سيده إنما جاء بشطر واحد، وفقاً لسياق القصة، ولذا اكتفى الشنقيطي بوضعه بين نجمتين، في داخل السطر، أما أصحاب (ت) فعزّ عليهم أن يبقى الشطر بلا صاحب، ولو كان لهم اهتمامٌ لتَطلّبوا الشّطر المكمل في مظانّه، كما في (اللامع العزيزي: 757) للمعري، الذي يورد البيت مع فائدته قائلاً: "فأما قولهم للولد السيئ الغذاء: جَدِعٌ، فإنهم يريدون أنه كالذي قطع عنه الغذاء، قال أوس بن حَجَرٍ:
وذاتُ هِدْمٍ عالٍ نواشِرُها ** تُسْكِتُ بالماء تَوْلباً جَدِعا
وصَحّفَ هذا البيْتَ بَعضُ العلماءِ فقال: جَذَعا".
محاولة للفهم:
نكتفي بهذا القدر من التحريفات، التي جاءت في صفحات لا تجاوز الثلاثين من الجزء الأول فقط، فماذا لو تتبعنا بقية الجزء، أو بقية الأجزاء السبعة عشر!
ألا يتساءل القارئ: ما الذي يدعو الناشرين للاستخفاف بالعلم إلى هذه الدرجة؟! لكن قد يبطل العجب إذا عرف السبب؛ فمن المعلوم أن دور النشر تلجأ في كثير من الأحيان إلى التعاقد مع أساتذة الجامعات لوضع أسمائهم على نشراتها، بحثاً عن التسويق لا أكثر! وهكذا يقع المتلقّي في الفخ، فبمجرد أن يرى الألقاب العلمية على الغلاف يكتسب عنده قيمة معنوية، بغض النظر عن كونه المذكور صاحب تحقيق أو تقديم! وبغض النظر عن كونه معروفاً بالعلم والتحقيق أم لا! ثم يَروجُ ذلك على الباحثين، فيظنون الكتاب محقّقاً، ويعتمدون عليه في أبحاثهم، ثم تأتي "الشاملة" بمزيد من الأخطاء والتصحيفات -على ما لها من حسنات- فتكون الكوارث العلمية والتحقيقية.
خلاصة ودعوة
لم يكن هدف هذه الورقة أن تدافع عن إمام اللغة وحافظها العلامة الشنقيطي، وإن كان ذلك مطلوباً ومرغوباً، ولكن الهدف الأهم هو تجلية الحقائق المطموسة في عالم النشر والتحقيق، وإعادة الحقوق لأصحابها، والموازنة العلمية الدقيقة، من أجل الفصل بين التحقيق والتزييف، وبين التحرير والتحريف.
وإني على يقين أنّنا بمزيد من البحث والمقارنات، نستطيع أن نعيد إلى هذا العالم الفذّ، حقوقَه العلمية التي استولى عليها كثيرون، بحسن نية أو بغيره، كما في نشرات ديوان الهذليين، والأغاني، والقاموس المحيط، والمعلقات السبع، ودلائل الإعجاز، وغيرها.
وهذه دعوة للباحثين، إلى مجال خصب يستحق أن تُعمل فيه الأفكار، وتسرح فيه العقول والأبصار.
المصدر: الثقافة
